كنت على علم مسبق بأن عقابًا ما ينتظرني في حال أكلت منها، ولكنني لم أطق العيش في جنة الشروط والممنوعات والتجاهل التام لوجودي. كنت أشعر أحيانًا كالشبح الخفيّ. لا أحد يراني ولا أحد يذكرني أو يكلمني أو يسمعني. كأنني لست هنا ولا دخل لي فيما يجري حولي. حتى اسمي لم أحصل عليه إلا يوم التهجير.
الرب أيضا، كان على علم مسبق بأنني سآكل من شجرته المحرّمة، لكنه لم يحاول منعي،
بل انتظر حتى أكلت وآدم منها، لكي يضبطنا متلبسين وينزل بنا عقابه. مثله في ذلك
مثل الشرطي الذي يختبئ مع راداره وراء شجرة حتى يضبط سائقًا تجاوز السرعة
المسموح بها، ويسجل له مخالفة ويلزمه بدفع الغرامة.
لم يدعمني في تمردي، سوى الحيّة وإبليس الساكن فيها. تفاجأت كثيرا من نباهة إبليس ولم أفهم كيف تمكن من العودة إلى الجنة، بعد أن طرده الرب حين أبى أن يسجد لآدم. تحملت نتيجة فعلتي رغم شدة العقاب وقسوته، ولم يحزن قلبي شيء مثلما أحزنه غضب آدم، الذي ظل يعاتبني ويعاقبني قرونًا طويلة. حاولت مرارًا أن أبرر له ما فعلت على أنه المكتوب عليّ، وليس خياري ولو بدا كأنه قراري. وإن كانت هذه فعلا ثمرة الخير والشر، فكيف لي أن أعرف أن أكلها وعصيان الرب شر، دون أن آكل منها ولو مرة؟
أثبت له أن الرب كان قادرًا على منعنا، وكان قادرًا على تصميمنا بشكل يعيق وصولنا
إلى تلك الثمرة، كان قادرًا على منع إبليس من التسلل إلى الجنة بعد طرده، وكان قادرًا
على خرس الأفعى الناطقة، لكنه لم يفعل أيّا من ذلك. إنها على الأرجح مشيئة الرب إذًا،
وما أنا سوى أداة لتنفيذها. فلا خير يقع ولا شر إلا بمشيئته. لكن آدم لم يصفح عني
وظل يدافع عنه ويحملني مسؤولية الطرد من عدن. مع ذلك لم يفلح في الحصول على
العفو أو حتى تخفيف العقاب. رغم محاولات تودده إلى الرب.
لم تفارقني التساؤلات والدوامات منذ هبوطنا على الأرض. حاولت أن أفهم، ما الذي جنيته حتى يحكم علي وعلى ذريتي بالأعمال الشاقة والأمراض والشرور أجمع إلى أجل غير مسمى؟ أكلت ثمرة كان أكلها حصرًا على الرب؟! وما الضير في أن يعرف البشر الخير والشر؟ لماذا يريد الرب احتكار هذه المعرفة؟ وهل فعلا أستحق كل هذا العقاب؟ لماذا أتمزق كالحيوان حين أنجب؟ ولماذا يتمزق الحيوان حين ينجب؟ أما كان يكفي أن يحرمني الرب من نعمة أخرى مثلا، أو يسجنني بضعة أيام، أو حتى يكتفي بصفعة خفيفة مع شيء من التوبيخ والتحذير؟
لماذا لا يلغي ما فعلتُ كأنه لم يكن (undo)؟ وما ذنب ذريتي فيما فعلت أنا؟ هل يعقل يا رب أن يعاني جميع البشر على مر الأبدية، ويعاني الحيوانات والطيور والأسماك بسببهم، بحجة لقمة قضمتها أنا من ثمرة؟
أشعر أحينًا كالرجل الذي سرق العنب، فقتلاً قتله الناطور
وقتل زوجته وأولاده وأحفاده وذريته أجمع، مع أن بعضهم
لا يعرفون سارق العنب ولم يسمعوا عنه قط.
أحيانًا تراودني فكرة، بأن تلك الثمرة بأكلها لم تكن أكثر من
ذريعة لطردنا من عدن وتوطيننا على كوكب الأرض.
ولكن لماذا يحتاج الرب إلى ذرائع؟ لم أكن أفهم حساباته، مع أن
لي عقلُ صنعه بنفسه. كم كنت أتمنى لو أنه صنع لي عقلا يسهل عليّ فهمه وفهم
حساباته.
كنت أحب الرب، رغم كل هذا، وعشت على أمل أن يتبدد غضبه الذي لم أفهمه، وأن
يرأف بي وبأسرتي. لكنه صدمني الصدمة الكبرى، حين أمر ولَديّ أن يقدما له التضحيات. يومها وقفت وراقبت وصليت وبكيت وتوسلت للرب أن يقبل من كليهما قربانه. كان قايين مخلصًا في حب الرب واختار له من خيرة ما زرع وقدمه له، لكن يا للصدمة! لم يقبل الرب قربانه النباتي. لم أفهم ما إذا كان هذا يعني أن الرب يفضل اللحم وأنه ينتظر البشر في المنفى، حتى يقدموا له الذبائح.
لقد فضل الكبش الذي قدمه ولدي الأصغر على ما قدمه أخوه الفلاح الكادح، وانتظر
حتى قتل قايين أخاه من شدة غيظه. يا حسرة قلبي على ولدي. لماذا لم تقبل منه يا رب؟
لماذا لم تردعه؟ لماذا شبكت الأخ بأخيه؟ ما حاجتك للحم الحيوان المقتول؟ وما البأس
في بعض السلطة إلى جانب المشاوي؟ ماذا تقول لذريتي الآن؟ اذبحوا فإن الرب يحب
الذبائح أكثر، واهجروا الفلاحة، والخضار لا تقدموه لأسيادكم.. من أنا لأفهم قصد
الرب..
كان آدم يقول إن هذه التساؤلات والخواطر إثم، وما كانت لتراودني لو ما أكلت من تلك
الثمرة. وظل يقمعها كلها ويكبت الصوت الصارخ في أعماقي مطالبًا بالعدالة الإلهية.
وظل هو يسجد للرب ويستجديه، ويزيد في لومي وكبتي وتعذيبي لكسب رضاه، وصار
يفرض علي الفروض ويكبلني بالشرائع ويحجب بدني بأوراق الشجر؛ ويقول إن حياتي
منه وجسدي من ضلعه، وإن الرب نصبه عليّ سيدا، وينسى أنني أنا التي تهب الحياة
للرجال والنساء. ولا زال يحاول أن يصادر مني امتياز الولادة ليفرض علي التبعية
والسيادة.
كتبت للرب رسائل عديدة احتججت فيها على ضعفنا وذلنا في
المنفى، توسلت إليه من أجل العفو والسلام.. وما من مجيب.
الرب لم يعد يظهر أو حتى يسمع صوتًا، وانقطعت
أخباره تمامًا منذ قتل ولدي أخاه بسببه، وتسلط أبنائي علي وعلى
بناتي والقوي على
الضعيف باسمه وبحجة إرضائه.